جاء حديثه هذا بمناسبة ذكرى يوم المباهلة 24 ذي الحجة في السنة 9 من الهجرة وهو اليوم الذي باهل فيه النبي (ص) نصارى نجران بعد ان امتنعوا من الدخول الاسلام ، وعلى اثره دخل النبي (ص) معهم في حوار طويل في اثبات احقية نبوته وايمانه بنبوة الانبياء السابقين واعتبارهم اصحاب رسائل سماوية خصوصا اولي العزم منهم ، وانه (ص) جاء مكملا لهذا البناء الرباني العقائدي ، غير ان البعض من اعضاء الوفد جحد، عندها دعاهم النبي (ص) الى المباهلة.
والمباهلة: هي ان ياتي النبي (ص) بمن يعتقد انهم اولياء الله وكذلك الطرف الاخر ياتي بما يعتقد انهم اولياء الله ثم يتباهلون فيقولون اللهم اجعل لعنتك على الكاذب منا، وهنا اختار الله لنبيه من يأتي بهم وهم من جاؤوا بنص الاية ((فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)) فجاء النبي (ص) بعلي وفاطمة والحسنين في ضحى اليوم المتفق عليه (24 ذي الحجة) ، وحينما عرف السيد والعاقب بمن جاء بهم النبي (ص) أمر بعدم مباهلتهم وجدالهم، وقال احدهما لاصحابه لو كان محمدا (ص) غير صادق لم يأت بأهله وذريته وأقرب المقربين إليه، وانه قد جاءكم بوجوه لو سال الله عز وجل بها ان يزيل جبلا لازاله، فتراجعوا عن ذلك وتصالحوا مع النبي (ص) على ان يدفعوا الجزية اليه، وبعدها بأيام أسلم الرجلان لما رأيا من آيات رسول الله وصدقه (ص)، وقد آمنت نجران كلها في أقل من عام بدون أن يسل فيها سيف أو أن يطعن فيها برمح وهذه من بركات رسول الله (ص) وبركات أهل بيته عليهم.
هذا هو مجمل الحادثة ومن احب الاطلاع عليها فليرجع الى كتب التفاسير والسيرة.
من هذه الواقعة نستنتج بعض الدلالات :
1- بان ابن البنت ابن، لقوله تعالى ((فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ)) عكس ما كان سائدا في الجاهلية بأن ابن البنت ليس بابن كما قال شعارهم :
بنونا بنو أبنائنا و بناتُنا بنوهُنّ أبناءُ الرجال الأباعد
وقد ابطل القران قول الجاهلية ولهذا اخرج النبي (ص) معه الحسنين وهما ابنا ابنته (ع)، كما يطلق ذلك على عيسى (ع) ((وَمِن ذُرِّيَّتِهِ)) ((دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)) أي أنّه يتّصل بإبراهيم من خلال الأمّ لا من خلال الأب.
2- ان عليا (ع) هو نفسُ النبي (ص) بنص الاية، لان هذا التّعبير يوحي بأنّ شخصية عليّ (ع) قد اندمجت بشخصيّة رسول الله (ص) علماً وروحانيّة وأخلاقاً وزهداً وشجاعةً، بحيث كان يمثّل رسول الله (ص) في ذاته، كما كان رسول الله يتمثّل فيه.
3- امكانية الحوار الإسلاميّ ـــ المسيحي، لأنّ هؤلاء عندما جاؤوا إلى النبيّ (ص) وهم يحملون عقيدة غير عقيدتهم، ولا سيّما بالنسبة إلى المسيح (ع)، ويتّبعون ديناً غير دينه، جاؤوا إلى مركز النبوّة، ونزلوا في الموقع العباديّ للإسلام، وهو المسجد، وأعطاهم النبيّ (ص) كلّ الحرية في أن يطرحوا فكرهم، ولم يمارس أيّ ضغط عليهم في تقديم فكرهم إليه، بل كان يواجههم بالحجّة، كما نقلته الرواية من ردّه عليهم بالنسبة إلى عيسى (ع) بتمثيله بآدم (ع) ((ان مثل عيسى عند الله كمثل ادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون))، فإنّنا نستوحي من ذلك، الدلالة على سماحة الإسلام.
4- هذا درس بليغ في حياتنا الاجتماعية حينما نتحاور مع كلّ من نختلف معه في الفكر، سواء كان دينياً في مجال العقيدة، أو ثقافيّاً في مضمار المفاهيم، أو في حقول السياسة والاجتماع وغيرها، فالحوار الهادف الموضوعيّ، هو الذي يحترم فيه المحاور محاوره دون أن يتّخذ من اختلافه معه في الرأي أسلوب السباب والشتائم والإساءة إلى الذات، لأنّك عندما تريد أن تدخل مع الآخر في حوار فيما اختلفت معه في الفكر، يجب عليك أن تحترم فكره في مجال الحوار، كما تريد منه أن يحترم فكرك، وهذا أقوى وأبلغ من أن تواجهه بأسلوب العنف، لأنّ أسلوب العنف هو أسلوب الفاشلين الضعفاء، ذلك أنّ القويّ فكرياً لا يخاف ممّا يواجهه به الآخرون من فكر مختلف، بل يردّ الحجّة بالحجّة، والفكرة بالفكرة، وهذا هو شأن الإسلام في كلِّ ما تحرّك فيه من أسباب الحوار.
5- وكما يقول البعض: نستوحي من المباهلة كخطٍّ أخير في الجدال، أنَّ علينا كما نستخدم أساليب الحوار الفكريّة في مقام اجتذاب الآخرين، علينا كذلك أن نستخدم الأساليب الإيمانيّة، فإذا كنّا والآخر نؤمن بالله سبحانه وتعالى، فلننطلق إلى تقديم الأساليب الّتي تجعل الفريقين يخافان من الله ويرجعان إليه، لأنَّ الإيحاء بقوَّة الله في أجواء هذا الخلاف، يجعل كلّ فريق يراجع نفسه عندما تصل المسألة إلى المنطقة الأخيرة وإلى الموقف الحاسم، فكأنّك تقول له: لم تقتنع بما أقول ولم أقتنع بما قلت، والحقيقةُ عند الله، وهو لا ينزل علينا ملكاً ليحلّ الخلاف بطريقة إعجازية، فتعال من خلال إيماننا بالله، نرجع إليه، لندعو في موقف واحد، وفي جوٍّ مليءٍ بالعاطفة من أبنائنا وأبنائكم، ونسائنا ونسائكم، وأنفسنا وأنفسكم، أن يلعن الكاذب منّا.
والخلاصة ان المباهلة تمثِّل أسلوب الصَّدمة الإيمانيَّة التي تهزُّ أعماق الإنسان، لتعيده إمَّا إلى أن يؤمن بما تؤمن به، أو ليبتعد عن موقع الحوار والجدال، وهذا ما حدث. فالمباهلة الّتي طرحها النبيّ (ص) من خلال أمره الله، جعلت هؤلاء يعيشون الصَّدمة الّتي خافوا منها على أنفسهم، عندما استنفروا إيمانهم بالله، ولذلك، منعتهم تقاليدهم ورواسبهم أن يؤمنوا، لكنَّها ابتعدت بهم عن ساحة الجدال والخلاف الّذي يحارب فيه النّاس بعضهم بعضاً، فخضعوا للمعاهدة، وهكذا كان.
واخيرا ان في درس المباهلة الكثير من الإيحاءات، وعلينا ونحن نعيش في ذكرى المباهلة، أن ندخل إلى أعماقها، لنفهمها فهماً يبتعد بها عن المناسبة المحدودة في الزّمان والمكان والأشخاص، لننطلق بها من أجل أن تتحرّك في حياتنا كلّها، وفي واقعنا كلّه، عندما نختلف مع الآخرين ونحاورهم، فالأمَّة القرآنيَّة هي الأمَّة التي يعيش القرآن نوراً في عقولها، ويقظة في قلوبها، وطهراً في مشاعرها وحركة في واقعها.
علينا ايها المؤمنون ان ننفتح على القرآن ونتدبّره ونتأمله جيّداً، حتى نخرج به ـــ كما أراد الله لكم ذلك ـــ من الظّلمات إلى النّور، ومن ظلمات الجهل والتخلّف والأنانيّة والعصبيّة العمياء، إلى نور العلم والتقدّم والإبداع والانفتاح على الإنسان الآخر.
قال امير المؤمنين (ع) في وصف القران (نورا لا تطفا مصابيحه وسراجا لا يخبو توقده وبحرا لا يدرك قعره ومنهاجا لا يضل نهجه وشعاعا لا يظلم ضوءه وفرقانا لا يخمد برهانه).
هذا وقد تزامنت مع هذه المناسبة مناسبات اخرى تخص امير المؤمنين واهل البيت (ع) كنزول اية الولاية ((انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)) في حق الامام علي (ع) ، ونزول سورة (هل اتى) في فضل اهل البيت (ع)، ونزول اية التطهير ((انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا)) بحقهم ايضا.
والجدير بالمسلمين ان يأخذوا من هذه الوقائع التاريخية العضات والعبر لتكون زادا لحاضرهم ومستقبلهم بغرس روح الولاء والمحبة لاهل بيت النبوة (ع) في نفوسهم ونفوس ابنائهم، لان ولاءهم هو الضمانة الحقيقية التي تسعدهم دنيا واخرة. ولذا قال النبي (ص) (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق).
هذا ولا ننسى ما ورد في هذا اليوم من مستحبات يجدر القيام بها من ادعية واعمال وغير ذلك، واملنا الكبير من المؤسسات والمراكز الدينية تسليط الضوء اكثر على هذه المناسبات المهمة والاحتفاء بها اداءا لأجر الرسالة.
نسال المولى سبحانه ان يجعلنا من المتمسكين بولاية امير المؤمنين وهل بيته الطيبين الطاهرين وان يحشرنا معهم يوم القيامة انه سميع مجيب.