جاء حديثه هذا بمناسبة شهادة الإمام العسكري (ع) الموافقة للثامن من ربيع الاول سنة ٢٦٠هـ عن عمر يناهز ٢٩ سنة. والده الإمام الهادي (ع) ووالدته اسمها سوسن أو سليل، وهي من فضليات النساء، وقد عبر عنها الإمام علي الهادي (ع) بقوله (سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس، وسيهب الله لها حجة على خلقه)، وكانت (رض) غاية في الإيمان والصلاح والورع والتقوى وعلوم الإسلام وأحكام الشريعة. وكان يرجع إليها الناس بعد وفاة الإمام العسكري (ع) وغيبة ولده الإمام المهدي (عج) لعدة سنوات في المسائل والمشاكل وسائر الحوائج الدينية. وقد جعلها الإمام الحسن العسكري (ع) وصية بحسب الظاهر، فأوصى إليها حفظاً لولده المهدي (عج) وتستراً عليه. هذا وقد ولد الامام (ع) في سامراء في الثامن من ربيع الثاني سنة ٢٣١هـ وفيها استشهد سنة ٢٦٠هـ في خلافة المعتمد العباسي وعمره ٢٩ سنة. وقد تحمل منه ومن بقية الخلفاء العباسيين كالمعتز والمستعين وغيرهما أشد أنواع الأذى والمصائب حتى أودع في السجن مراراً عديدة بغضاً وحسداً له وحيلولة بينه وبين عياله، حتى لا يولد الإمام المهدي (ع) الموعود بإقامة دولة الحق وإزالة دولة الباطل والظلم. ولكن خاب سعيهم وولد هذا المولود دون علمهم وستره الله عنهم إلى يوم وفاة أبيه الإمام العسكري (ع) ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)).
إن الحديث عن الإمام العسكري (ع) تعرضت له كتب التأريخ والسير كثيراً، وفيها من الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة على تفوقه في كافة مجالات الفضل والكمال التي لا يسع المقام سردها وشرحها. ولكن لإثبات هذا الجانب ننقل بعض ما يروى من خدماته الاجتماعية المذهبية لأمة جده (ص) والتي تدل على جلالة قدره وعلو مقامه..
منها: ما ذكروا بأن المطر تأخر سنة عن سامراء حتى شكى الناس العطش والقحط، فصاروا يخرجون بزعامة الخليفة العباسي لصلاة الاستسقاء فلا يجاب لهم. إلى أن خرج النصارى بزعامة عالمهم الجاهلية وإذا السماء تهطل بالمطر بمجرد أن رفع يده بالدعاء نحو السماء. فعظم ذلك على المسلمين وشك بعضهم ومال آخرون إلى دين النصرانية، فلجأ الخليفة إلى الإمام العسكري وهو في السجن، فقال له: أدرك أمة جدك محمد فإن الأمر كذا وكذا. فخرج هو (ع) في اليوم التالي إلى الاستسقاء وخرج النصارى أيضاً. فأمر الإمام بعض أصحابه أن يقبض على يد الجاثليق ويأخذ ما فيها. فلما رفع الجاثليق يده بالدعاء قبض الرجل على يده فأخرج منها قطعة عظم أسود فانقشعت الغيوم وطلعت الشمس فعلم الناس أن المطر كان بسبب ذلك العظم. فلما سئل الامام عن سر ذلك العظم قال: إنها قطعة من عظام بعض الأنبياء حصل عليها ذلك النصراني ومن خواص عظام الأنبياء أنها إذا كشفت تحت السماء هطل المطر. وبذلك زال الشك وكشف الحق. ثم صلى الإمام صلاة الاستسقاء فسقوا الغيث ببركته.
إلى جانب هذا ملاحقته (ع) للأفكار المنحرفة في زمانه والمخالفة للعقيدة الإسلامية الحقة..
حيث نقل ابن شهرآشوب في (المناقب) عن أبي القاسم الكوفي في كتاب (التبديل) تدلّ على أن الإمام العسكري (ع) كان يلاحق التطوّر الثقافي في مواجهة الفكر الإسلامي، بحيث كان يلاحق المفكرين في زمانه، وخصوصاً الذين يعملون على تهديم الأسس العقيدية والثقافية للإسلام، ومنهم فيلسوف العراق، ويُقال أيضاً فيلسوف العرب (يعقوب بن إسحاق الكندي)، فيروي ابن شهرآشوب عن الكندي: “أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمد (ع): “أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الإعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمد (ع): أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فَصِرْ إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ـ فالشرط الأول أن تدخل قلبه لتستطيع أن تدخل عقله، وهذا أسلوب من أساليب الحوار في القران، وهو أنك إذا أردت أن تدخل في حوار فكري مع شخص آخر تختلف معه لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أولاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة والإطلالة الحلوة والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله ((وجادلهم بالتي هي أحسن))، ((وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)).
ـ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن (أي الذي يوحي لك بهذه الأفكار)، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به غير المعاني التي قد ظننت أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول: إنه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ـ وعظمة أهل البيت (ع) أنهم لا ينكرون على الذين يختلفون معهم صفاتهم الإيجابية، خلافاً لما هو دائر بيننا، فإذا اختلفنا مع شخص فلا نتحدّث عنه بخير ولو بنسبة واحد بالمائة، فمع أن الكندي ألّف كتاباً في تناقض القرآن وهو أمر خطير، لكن الإمام (ع) يقول لتلميذه إنه سيقول لك من الجائز، لأنه رجل مفكّر، ولأنه رجل منسجم مع نفسه، فإذا جئته بفكرة معقولة، فإنها سوف تدخل عقله ولا يتعصّب في رفضها ويتشبّث بقناعاته ـ فإذا أوجب ذلك ـ فإذا رأيته استجاب للمسألة ـ فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه.
فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه، ورأى أنّ ذلك محتملٌ في اللغة وسائغٌ في النظر ـ فاللغة العربية مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أن المراد هو المعنى اللغوي والمقصود هو المعنى الكنائي.
فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد (ع)، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلا من ذلك البيت “الذي زقّ أهله العلم زقاً ـ والذين يعيشون صفاء الحقيقة واستقامة التفكير والجدل من أجل الوصول إلى الحقيقة ـ ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه.
فالإمام العسكري (ع) كان يتابع بدقّة ما يجري على الساحة الفكرية في عهده، ويناقش الأفكار المنحرفة التي تُطرح هنا وهناك، وكان يواجهها بالحجّة وبالأسلوب العلمي، لأنه يعرف أنّ شخصاً مثل الكندي الذي هو فيلسوف العراق، لا يمكن أن تردّه عمّا هو فيه بالأساليب السلبية كالشتائم والتكفير والتضليل وما إلى ذلك، مما يستخدمه المتفلسفون الذين لا يملكون الحجّة على ما يواجهون به الذين يختلفون معهم.
وهناك حديث آخر أيضاً يحاول الإمام (ع) أن يردّ فيه بعض الشبهات. فعن الكليني بإسناده عن إسحاق بن محمد النخعي، قال: “سأل الفهفكي أبا محمد (ع) السؤال المطروح دائماً: ((للذكر مثل حظّ الأنثيين))، فلماذا جعل الله المرأة الطرف الضعيف وأنقص من حقها وجعل الرجل الطرف القويّ وجعل له الحظّ الأوفر، ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين؟! فقال أبو محمد (ع): “إنّ المرأة ليس عليها جهاد ـ بينما الرجل عليه جهاد، وكان الرجل في الجهاد يأخذ سلاحه، فلم تكن الدولة تعطي المقاتل سلاحاً، بل يشتريه ويحمل معه مؤونته وراحلته ـ ولا نفقة للمرأة ـ فلا يجب عليها أن تنفق على الرجل ولا على أولادها، بل الرجل هو الذي ينفق عليها ـ ولا عليها معقلة” ـ فإذا قتل شخص إنساناً خطأ، فإنّ الدية تتحملها العاقلة، وهي الرجال من الأقرباء، أما النساء فلا يدفعن الدية، فالله عندما أعطى الرجل أعطاه بمقدار ما أخذ منه، فقد حمّله مسؤولية الجهاد ونفقة العائلة ونفقة الزوجة، وجعله مشاركاً في الدية التي تكون على العائلة، أما المرأة فإنه لم يلزمها بذلك، ومعنى ذلك أنّ حصة المرأة أصبحت أكثر من حصة الرجل، وكأنَّ الإمام(ع) يريد أن يقول له: ليست المسألة هي أنه كم أعطاك، لكن كم أخذ منك، فَمَنِ الرابح في الطرفين في المحصّلة؟ إنَّ المرأة إذا تزوجت تأخذ مهراً وتأخذ النفقة، فلا تنفق من مالها، ثم إنَّ نفقة الأولاد على الرجل أيضاً، فمالها يبقى ثابتاً لا يتحرّك.
يقول ـ فقلت في نفسي قد قيل لي إن ابن أبي العوجاء قد سأل أبا عبد الله (ع) فأجابه بهذا الجواب ـ والإمام العسكري (ع) التقط ما في نفسه قبل أن يتحدّث به ـ فأقبل أبو محمد (ع)، فقال: “نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد ـ فنحن لا نختلف والإمام الصادق (ع)، فجوابنا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً ـ جرى لآخرنا ما جرى لأولنا؛ وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء ـ ليس هناك إمام أفضل من إمام ـ ولرسول الله (ص) ولأمير المؤمنين (ع) فضلهما”.
وهذه حقيقة إيمانية لا بدّ أن ننتبه إليها، وهي أن الإمام (ع) يؤكد في هذه الرواية أنَّ الأئمة (ع) حتى لو صدر من بعضهم ولم يصدر من البعض الآخر إلا أقل من ذلك بسبب الظروف التي تتسع لبعض وتضيق عن آخر، إلا أن قاعدة العلم واحدة للأول وللآخر.
ولهذا جاء في الحديث: (أولنا محمد وأوسطها محمد وآخرنا محمد بل كلنا محمد). فلا يتناقض ولا يتنافر ما يطرحونه من أفكار ورؤى تمثل الإسلام المحمدي كالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذه من علاه إحدى المعالي وعلى هذه فقس ما سواها
اللهم صل على سيدنا محمد وأهل بيته وصل على الحسن بن علي الهادي إلى دينك والداعي إلى سبيلك علم الهدى ومنار التقى ومعدن الحجى ومأوى الورى وسحاب الحكمة وبحر الموعظة ووارث الأئمة والشهيد على الأمة والسلام عليه ورحمة الله بركاته.